الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: القول المفيد على كتاب التوحيد **
التنجيم: مصدر نجم بتشديد الجيم، أي: تعلم علم النجوم، أو اعتقد تأثير النجوم. وعلم النجوم ينقسم إلى قسمين: 1- علم التأثير. 2- علم التسيير. فالأول: علم التأثير. وهذا ينقسم إلى ثلاثة أقسام: أ- أن يعتقد أن هذه النجوم مؤثرة فاعلة، بمعنى أنها هي التي تخلق الحوادث والشرور، فهذا شرك أكبر، لأن من ادعى أن مع الله خالقًا، فهو مشرك شركًا أكبر، فهذا جعل المخلوق المسخر خالقًا مسخرًا. ب- أن يجعلها سببًا يدعي به علم الغيب، فيستدل بحركاتها وتنقلاتها وتغيراتها على أنه سيكون كذا وكذا، لأن النجم الفلاني صار كذا وكذا، مثل أن يقول: هذا الإنسان ستكون حياته شقاء، لأنه ولد في النجم الفلاني، وهذا حياته ستكون سعيدة لأنه ولد في النجم الفلاني. فهذا اتخذ تعلم النجوم وسيلة لادعاء علم الغيب، ودعوى علم الغيب كفر مخرج عن الملة، لأن الله يقول: ج- أن يعتقدها سببًا لحدوث الخير والشر، أي أنه إذا وقع شيء نسبة إلى النجوم، ولا ينسب إلى النجوم شيئًا إلا بعد وقوعه، فهذا شرك أصغر. فإن قيل: ينتقض هذا بما ثبت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في قوله في الكسوف: والجواب من وجهين: الأول: أنه لا يسلم أن للكسوف تأثيرًا في الحوادث والعقوبات من الجدب والقحط والحروب، ولذلك قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: الثاني: أنه لو سلمنا أن لهما تأثيرًا، فإن النص قد دل على ذلك، وما دل عليه النص يجب القول به، لكن يكون خاصًا به. لكن الوجه الأول هو الأقرب: أننا لا نسلم أصلًا أن لهما تأثيرًا في هذا، لأن الحديث لا يقتضيه، فالحديث ينص على التخويف، والمخوف هو الله تعالى، والمخوف عقوبته، ولا أثر للكسوف في ذلك، وإنما هو علامة فقط. الثاني: علم التيسير. وهذا ينقسم إلى قسمين: الأول: أن يستدل بسيرها على المصالح الدينية، فهذا مطلوب، وإذا كان يعين على مصالح دينية واجبة كان تعلمها واجبًا، كما لو أراد أن يستدل بالنجوم على جهة القبلة، فالنجم الفلاني يكون ثلث الليل قبلة، والنجم الفلاني يكون ربع الليل قبلة، فهذا فيه فائدة عظيمة. الثاني: أن يستدل بسيرها على المصالح الدنيوية، فهذا لا بأس به، وهو نوعان: النوع الأول: أن يستدل بها على الجهات، كمعرفة أن القطب يقع شمالًا، والجدي وهو قريب منه يدور حوله شمالًا، وهكذا، فهذا جائز، قال تعالى: النوع الثاني: أن يستدل بها على الفصول، وهو ما يعرف بتعلم منازل القمر، فهذا كرهه بعض السلف، وأباحه آخرون. والذين كرهوه قالوا: يخشى إذا قيل: طلع النجم الفلاني، فهو وقت الشتاء أو الصيف: أن بعض العامة يعتقد أنه هو الذي يأتي بالبرد أو البحر أو بالرياح. والصحيح عدم الكراهة، كما سيأتي إن شاء الله . * * * قال البخاري في "صحيحه": "قال قتادة: خلق الله هذه النجوم لثلاث: زينة للسماء، ورجومًا للشياطين، وعلامات يهتدى بها، فمن تأول فيها غير ذلك، أخطِأ، وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به" انتهى. قوله في أثر قتادة: "خلق الله هذه النجوم لثلاث". اللام للتعليل، أي: لبيان العلة والحكمة. قوله: "لثلاث". ويجوز لثلاثة، لكن الثلاث أحسن، أي: لثلاث حكم، لهذا حذف تاء التأنيث من العدد. والثلاث هي: الأولى: زينة للسماء، قال تعالى: وهل نقول: إن ظاهر الآية الكريمة أن النجوم مرصعة في السماء، أو نقول: لا يلزم ذلك؟ الجواب: لا يلزم من ذلك أن تكون النجوم مرصعة في السماء، قال تعالى: وأنا شاهدت بعيني أن القمر خسف نجمة من النجوم، أي غطاها، وهي من النجوم اللامعة الكبيرة كان يقرب حولها في آخر الشهر، وعند قرب الفجر غطاها، فكنا لا نراها بالمرة، وذلك قبل عامين في آخر رمضان. إذن هي أفلاك متفاوتة في الارتفاع والنزول، ولا يلزم أن تكون مرصعة في السماء. فإن قيل: فما الجواب عن قوله تعالى: قلنا: إنها لا يلزم من تزيين الشيء بالشيء أن يكون ملاصقًا له، أرأيت لو أن رجلًا عمر قصرًا وجعل حوله ثريات من الكهرباء كبيرة وجميلة، وليست على جدرانه، فالناظر إلى القصر من بعد يرى أنها زينة له، وإن لم تكن ملاصقة له. الثانية: رجومًا للشياطين، أي: لشياطين الجن، وليسوا شياطين الإنس، لأن شياطين الإنس لم يصلوها، لكن شياطين الجن وصلوها، فهم أقدر من شياطين الإنس، ولهم قوة عظيمة نافذة، قال تعالى عن عملهم الدال على قدرتهم: وقال تعالى: الثالثة: علامات يهتدى بها، تؤخذ من قوله تعالى: الأول: أرضية، وتشمل كل ما جعل الله في الأرض من علامة، كالجبال، والأنهار، والطرق، والأودية، ونحوها. والثاني: أفقية في قوله تعالى: والنجم: اسم جنس يشمل كل ما يهتدى به، ولا يختص بنجم معين، لأن كل قوم طريقة في الاستدلال بهذه النجوم على الجهات، سواء جهات القبلة أو المكان، برًا أو بحرًا. وهذا من نعمة الله أن جعل علامات علوية لا يحجب دونها شيء، وهي النجوم، لأنك في الليل لا تشاهد جبالًا ولا أودية، وهذا من تسخير الله، قال تعالى: * * * وكره قتادة تعلم منازل القمر. ولم يرخص ابن عيينة فيه. ذكره حرب عنهما. ورخص في تعلم المنازل أحمد وإسحاق. قوله: "وكره قتادة تعلم منازل القمر". أي: كراهة تحريم بناءً على أن الكراهة في كلام السلف يراد بها التحريم غالبًا. وقوله: "تعلم منازل القمر" يحتمل أمرين الأول: أن المراد به معرفة منزلة القمر، الليلة يكون في الشرطين، ويكون في الإكليل، فالمراد معرفة منازل القمر كل ليلة، لأن كل ليلة له منزلة حتى يتم ثمانيًا وعشرين وفي تسع وعشرين وثلاثين لا يظهر في الغالب. الثاني: أن المراد به تعلم منازل النجوم، أي: يخرج النجم الفلاني، في اليوم الفلاني وهذه النجوم جعلها الله أوقاتًا للفصول، لأنها [28] نجمًا، منها [14] يمانية، و[14] شمالية، فإذا حلت الشمس في المنازل الشمالية صار الحر، وإذا حلت في الجنوبية صار البرد، ولذلك كان من علامة دنو البرد خروج سهيل، وهو من النجوم اليمانية. قوله: "ولم يرخص فيه ابن عيينة". هو سفيان بن عيينة المعروف، وهذا يوافق قول قتادة بالكراهة. قوله: "وذكره حرب". من أصحاب أحمد، روى عنه مسائل كثيرة. قوله: "إسحاق". هو إسحاق بن راهويه. والصحيح أنه لا بأس بتعلم منازل القمر، لأنه لا شرك فيها، إلا أن تعلمها ليضيف إليها نزول المطر وحصول البرد، وأنها هي الجالبة لذلك، فهذا نوع من الشرك، أما مجرد معرفة الوقت بها: هل هو الربيع، أو الخريف، أو الشتاء، فهذا لا بأس به. * * * وعن أبي موسى، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: قوله في حديث أبي موسى: "الجنة". هي الدار التي أعدها الله لأوليائه المتقين، وسميت بذلك، لكثرة أشجارها لأنها تجن من فيها أي تستره. قوله: "مدمن خمر". هو الذي يشرب الخمر كثيرًا، والخمر حده الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله: وقال حمزة بن عبد المطلب ـ وكان قد سكر قبل تحريم الخمر ـ للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: قوله: "قاطع رحم". الرحم: هم القرابة، قال تعالى: ومعنى قاطع الرحم: أن لا يصله، والصلة جاءت مطلقة في الكتاب والسنة، قال تعالى: فالصلة في زمن الجوع والفقر: أن يعطيهم ويلاحظهم بالكسوة والطعام دائمًا، وفي زمن الغنى لا يلزم ذلك. وكذلك الأقارب ينقسمون إلى قريب وبعيد، فأقربهم يجب له من الصلة أكثر مما يجب للأبعد. ثم الأقارب ينقسمون إلى قسمين من جهة أخرى: قسم من الأقارب يرى أن لنفسه حقًا لا بد من القيام به، ويريد أن تصله دائمًا، وقسم آخر يقدر الظروف وينزل الأشياء منازلها، فهذا له حكم، وذلك له حكم. والقطيعة يرجع فيها إلى العرف، إلا أنه يستثنى من ذلك مسألة، وهي: ما لو كان العرف عدم الصلة مطلقًا، بأن كنا في أمة تشتتت وتقطعت عرى صلتها كما يعرف الآن في البلاد الغربية، فإنه لا يعمل حينئذ بالعرف، ونقول: لابد من صلة، فإذا كان هناك صلة في العرف اتبعناها، وإذا لم يكن هناك صلة، فلا يمكن أن نعطل هذه الشريعة التي أمر الله بها ورسوله. والصلة ليس معناها أن تصل من وصلك، لأن هذا مكافأة، وليست صلة، لأن الإنسان يصل أبعد الناس عنه إذا وصله، إنما الواصل، كما قال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : وهل صلة الرحم حق لله أو للآدمي؟ الظاهر أنها حق للآدمي، وهي حق لله باعتبار أن الله أمر بها. قوله: "ومصدق بالسحر". هذا هو شاهد الباب، ووجهه أن علم التنجيم نوع من السحر، فمن صدق به فقد صدق بنوع من السحر، فقد سبق: فإن قيل: لماذا لا يجعل السحر هنا عامًا ليشمل التنجيم وغير التنجيم؟ أجيب: إن المصدق بما يخبره به السحر من علم الغيب يشمله الوعيد هنا، وأما المصدق بأن للسحر تأثيرًا، فلا يلحقه هذا الوعيد، إذا لا شك أن للسحر تأثيرًا، لكن تأثيره تخييل، مثل ما وقع من سحرة فرعون حيث سحروا أعين الناس حتى رأوا الحبال والعصي كأنها حيات تسعى، وإن كان لا حقيقة لذلك، وقد يسحر الساحر شخصًا فيجعله يُحِب فلانًا ويبغض فلانًا، فهو مؤثر، قال تعالى: أما من صدق بأن السحر يؤثر في قلب الأعيان بحيث يجعل الخشب ذهبًا أو نحو ذلك، فلا شك في دخوله في الوعيد، لأن هذا لا يقدر عليه إلا الله ـ عز وجل ـ . وقوله: "ثلاثة لا يدخلون الجنة". هل المراد الحصر وأن غيرهم يدخل الجنة؟ الجواب: لا، لأن هناك من لا يدخلون الجنة سوى هؤلاء، فهذا الحديث لا يدل على الحصر. وهل هؤلاء كفار لأن من لا يدخل الجنة كافر؟ اختلف أهل العلم في هذا الحديث وما يشبهه من أحاديث الوعيد على أقوال: القول الأول: مذهب المعتزلة والخوارج الذين يأخذون بنصوص الوعيد، فيرون الخروج من الإيمان بهذه المعصية، لكن الخوارج يقولون: هو كافر، والمعتزلة يقولون: هو في منزلة بين المنزلتين، وتتفق الطائفتان على أنهم مخلدون في النار، فيجرون هذا الحديث ونحوه على ظاهره، ولا ينظرون إلى الأحاديث الأخرى الدالة على أن من في قلبه إيمان وإن قل، فإنه لا بد أن يدخل الجنة. القول الثاني: أن هذا الوعيد فيمن استحل هذا الفعل بدليل النصوص الكثيرة الدالة على أن من في قلبه إيمان وإن قل، فلا بد أن يدخل الجنة، وهذا القول ليس بصواب، لأن من استحله كافر ولو لم يفعله، فمن استحل قطيعة الرحم أو شرب الخمر مثلًا، فهو كافر وإن لم يقطع الرحم ولم يشرب الخمر. القول الثالث: أن هذا من باب أحاديث الوعيد التي تمر كما جاءت ولا يتعرض لمعناها، بل يقال: هكذا قال الله وقال رسوله ونسكت، فمثلًا: قوله تعالى: القول الرابع: أن هذا نفي مطلق، والنفي المطلق يحمل على المقيد، فيقال: لا يدخلون الجنة دخولًا مطلقًا يعني لا يسبقه عذاب، ولكنهم يدخلون الجنة دخولًا يسبقه عذاب بقدر ذنوبهم، ثم مرجعهم إلى الجنة، وذلك لأن نصوص الشرع يصدق بعضها بعضًا، ويلائم بعضها بعضًا، وهذا أقرب إلى القواعد وأبين حتى لا تبقى دلالة النصوص غير معلومة، فتقيد النصوص بعضها ببعض. وهناك احتمال: أن من كانت هذه حاله حَرِيٌ أن يختم له بسوء الخاتمة، فيموت كافرًا، فيكون هذا الوعيد باعتبار ما يؤول حاله إليه، وحينئذ لا يبقى في المسألة إشكال، لأن من مات على الكفر، فلن يدخل الجنة، وهو مخلد في النار، وربما يؤيده قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: * * * * فيه مسائل: الأولى: الحكمة في خلق النجوم. الثانية: الرد على من زعم غير ذلك. الثالثة: ذكر الخلاف في تعلم المنازل. الرابعة: الوعيد فيمن صدق بشيء من السحر ولو عرف أنه باطل. فيه مسائل: * الأولى: الحكمة في خلق النجوم. وهي ثلاث: - أنها زينة للسماء. - ورجوم للشياطين. - وعلامات يهتدى بها. وربما يكون هناك حكم أخرى لا نعلمها. * الثانية: الرد على من زعم غير ذلك. لقول قتادة: "من تأول فيها غير ذلك، أخطأ، وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به". ومراد قتادة في قوله: "غير ذلك" ما زعمه المنجمون من الاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية، وأما ما يمكن أن يكون فيها من أمور حسية سوى الثلاث السابقة، فلا ضلال لمن تأوله. * الثالثة: ذكر الخلاف في تعلم المنازل. سبق ذلك . * الرابعة: الوعيد فيمن صدق بشيء من السحر ولو عرف أنه باطل. من صدق بشيء من التنجيم أو غيره من السحر بلسانه ولو اعتقد بطلانه بقلبه، فإن عليه هذا الوعيد، كيف يصدق وهو يعرف أنه باطل، لأنه يؤدي إلى إغراء الناس به وبتعلمه وبممارسته؟!
|