الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: القول المفيد على كتاب التوحيد **
مناسبة هذا الباب لما قبله: هي أن الإنسان إذا أفرد الله - سبحانه - بالتوكل، فإنه يعتمد عليه في حصول مطلوبه وزوال مكروهه، ولا يعتمد على غيره. والتوكل: هو الإعتماد على الله - سبحانه وتعالى - في حصول المطلوب، ودفع المكروه، مع الثقة به وفعل الأسباب المأذون فيها، وهذا أقرب تعريف له، ولابد من أمرين: الأول: أن يكون الاعتماد على الله اعتمادًا صادقًا حقيقيًا. الثاني: فعل الأسباب المأذون فيها. فمن جعل أكثر اعتماده على الأسباب، نقص توكله على الله، ويكون قادحًا في كفاية الله، فكأنه جعل السبب وحده هو العمدة فيما يصبو إليه من حصول المطلوب وزوال المكروه. ومن جعل اعتماده على الله ملغيًا للأسباب، فقد طعن في حكمة الله، لأن الله جعل لكل شيء سببًا، فمن اعتمد على الله اعتمادًا مجردًا، كان قادحًا في حكمة الله، لأن الله حكيم، يربط الأسباب بمسبباتها، كمن يعتمد على الله في حصول الولد وهو لا يتزوج. والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أعظم المتوكلين، ومع ذلك كان يأخذ بالأسباب، فكان يأخذ الزاد في السفر، ولما خرج إلى أحد ظاهر بين درعين، أي: لبس درعين اثنين، ولما خرج مهاجرًا أخذ من يدله الطريق، ولم يقل سأذهب مهاجرًا وأتوكل على الله، ولن أصطحب معي من يدلني الطريق، وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتقى الحر والبرد، ولم ينقص ذلك من توكله. ويذكر عن عمر رضي الله عنه أنه قدم ناس من أهل اليمن إلى الحج بلا زاد، فجيء بهم إلى عمر، فسألهم، فقالوا: نحن المتوكلون على الله، فقال: لستم المتوكلين، بل أنتم المتواكلون. والتوكل نصف الدين، ولهذا نقول في صلاتنا: وقال تعالى: والتوكل ينقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول: توكل عبادة وخضوع، وهو الاعتماد المطلق على من توكل عليه، بحيث يعتقد أن بيده جلب النفع ودفع الضر، فيعتمد عليه اعتمادًا كاملًا، مع شعوره بافتقاره إليه، فهذا يجب إخلاصه لله تعالى، ومن صرفه لغير الله، فهو مشركًا أكبر، كالذين يعتمدون على الصالحين من الأموات والغائبين، وهذا لا يكون إلا ممن يعتقد أن لهؤلاء تصرفًا خفيًا في الكون، فيعتمد عليهم في جلب المنافع ودفع المضار. الثاني: الاعتماد على شخص في رزقه ومعاشه وغير ذلك، وهذا من الشرك الأصغر، وقال بعضهم: من الشرك الخفي، مثل اعتماد كثير من الناس على وظيفته في حصول رزقه، ولهذا تجد الإنسان يشعر من نفسه أنه معتمد على هذا اعتماد افتقار، فتجد في نفسه من المحاباة لمن يكون هذا الرزق عنده ما هو ظاهر، فهو لم يعتقد أنه مجرد سبب، بل جعله فوق السبب. الثالث: أن يعتمد على شخص فيما فوض إليه التصرف فيه، كما لو وكلت شخصًا في بيع شيء أو شرائه، وهذا لا شيء فيه، لأنه أعتمد عليه وهو يشعر أن المنزلة العليا فوقه، لأنه جعله نائبًا عنه، وقد وكل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على ابن أبي طالب أن يذبح ما بقي من هديه، ووكل أبا هريرة على الصدقة، ووكل عروة بن الجعد أن يشتري له شاة، وهذا بخلاف القسم الثاني، لأنه يشعر بالحاجة إلى ذلك، ويرى اعتماده علي المتوكَّل عليه اعتماد افتقار. ومما سبق يتبين ن التوكل من أعلى المقامات وأنه يجب على الإنسان أن يكون مصطحبًا له في جميع شؤونه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله: " ولا يكون للمعطله أن يتوكلوا على الله ولا للمعتزلة القدرية "، لأن المعطلة يعتقدون انتفاء الصفات عن الله تعالى، والإنسان لا يعتمد إلا علي من كان كامل الصفات المستحقة لأنه يعتمد عليه. وكذلك القدرية، لأنهم يقولون: إن العبد مستقل بعمله، والله ليس له تصرف في أعمال العباد. ومن ثم نعرف أن طريق السلف هو خير الطرق، وبه تكمل جميع العبادات وتتم به جميع أحوال العابدين.
|