الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: اتعاظ الحنفاء بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفاء **
أبو تميم معد ابن المنصور أبي الطاهر بن القائم أبي القاسم محمد ابن عبيد الله المهدي قال: ولى الأمر بعد أبيه سلخ شوال وقيل يوم الجمعة سابع عشر سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة. وأقام في تدبير الأمور إلى سابع ذي الحجة سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة وأذن للناس فدخلوا ومولده بالمحمدية على أربع ساعات وأربع أخماس ساعة من يوم الاثنين الحادي عشر من رمضان سنة تسع عشرة وثلاثمائة. ومدة أيامه ثلاث وعشرون سنة وخمسة أشهر وسبع عشر يوماً. فلما كان في سنة اثنتين وأربعين جالت عساكره في جبل أوراس وكان ملجأ كل منافق على الملوك يسكنه بنو كملان ومليلة وبعض هوارة ولم يدخلوا في طاعة من تقدمه فأطاعوا المعز ودخلوا معه البلاد وتقدم إلى نوابه بالإحسان إلى البربر فلم يبق منهم إلا من أتاه وشمله إحسان المعز فعظم أمره. وفي سنة سبع وأربعين عظم أمر أبي الحسين جوهر عند المعز وعلا محله وصار في رتبة الوزارة فسيره في صفر منها على جيش كثيف فيهم الأمير زيرى بن مناد الصنهاجي وغيره فسار إلى تاهرت وحارب قوماً وافتتح مدنا ونهب وأحرق وسار إلى فارس فنازلها مدة وسار إلى سجلماسة وقد قام بها رجل وتلقب بالشاكر لله وخوطب بأمير المؤمنين ففر من جوهر فتبعه حتى أخذه أسيراً. ومضى جوهر إلى البحر المحيط فأمر أن يصاد من سمكه وبعثه في قلال الماء إلى المعز وسلك ما هنالك من البلاد فافتتحها ثم عاد فقاتل أهل فاس حتى افتتحها عنوة وقبض على صاحبها وجعله مع صاحب سجلماسة في قفصين وحملهما إلى المعز بالمهدية وعاد في أخريات السنة. وفي سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة كان إعذار المعز لدين الله الأمراء بنيه: عبد الله وتزار وعقيل فحين عزم على طهورهم كاتب عماله وولاته من لدن برقة إلى أقصى سجلماسة وما بين ذلك وما حوته مملكته إلى جزيرة صقلية وما والاها في حضر وبدو وبحر وبر وسهل وجبل بطهور من وجد من أولاد سائر الخلق حرهم وعبدهم وأبيضهم وأسودهم ودنيئهم وشريفهم ومليهم وذميهم الذين حوتهم مملكته لمدة شهر وتوعد على ترك ذلك وأمرهم بالقيام بجميع نفقاتهم وكسوتهم وما يصلح أحوالهم من مطعم ومشرب وملبس وطيب وغيره بمقدار رتبهم وأحوالهم فكان من جملة المنفق في ذلك مما حمل إلى جزيرة صقلية وحدها من المال سوى الخلع والثياب خمسون حملاً من الدنانير كل حمل عشرة آلاف دينار ومثل ذلك إلى كل عامل من عمال مملكته ليفرقه على أهل عمله. وابتدىء بالختان في مستهل ربيع الأول منها فكان المعز يطهر في اليوم من أيام الشهر بحضرته اثنا عشر ألف صبي وفوقها ودونها وختن من أهل صقلية وحدها خمسة عشر ألف صبي وكان وزن خرق الأكياس المفرغة مما أنفق في هذا الإعذار مائة وسبعين قنطارا بالبغدادي. واستدعى المعز وهو بالمنصورية في يوم شات باردة الريح عدة شيوخ من شيوخ كتامة وأمر بادخالهم إليه من غير الباب الذي جرى الرسم به فإذا هو في مجلس مربع كبير مفروش باللبود على مطارح وحوله كساء وعليه جبة وحواليه أبواب مفتحة تفضى إلى خزائن كتب وبين يديه مرفع ودواة وكتب حواليه فقال: يا إخواننا: أصبحت اليوم في مثل هذا الشتاء والبرد فقلت لأم الأمراء وإنها الآن بحيث تسمع كلامي : أترى إخواننا يظنون أنا في مثل هذا اليوم نأكل ونشرب ونتقلب في المثقل والديباج والحرير والفنك والسمور والمسك والخمر والغناء كما يفعل أرباب الدنيا! ثم رأيت أن أنفذ إليكم فأحضركم لتشاهدوا حالي إذا خلوت دونكم واحتجبت عنكم وأني لا أفضلكم في أحوالكم إلا فيما لا بد لي منه من دنياكم وبما خصني الله به من إمامتكم وأني مشغول بكتب ترد على من المشرق والمغرب أجيب عنها بخطى وأني لا أشتغل بشيء من ملاذ الدنيا إلا بما صان أرواحكم وعمر بلادكم وأذل أعداءكم وقمع أضدادكم. فافعلوا يا شيوخ في خلوتكم مثل ما أفعله ولا تظهروا التجبر والتكبر فينزع الله النعمة عنكم وينقلها إلى غيركم وتحننوا على من وراءكم ممن لا يصل إلي كتحنني عليكم ليتصل في الناس الجميل ويكثر الخير وينتشر العدل. وأقبلوا بعدها على نسائكم والزموا الواحدة التي تكون لكم ولا تشرهوا إلى التكثير منهن والرغبة فيهن فيتنغص عيشكم وتعود المضرة عليكم وتنهكوا أبدانكم وتذهب قوتكم وتضعف نحايزكم فحسب الرجل الواحد الواحدة ونحن محتاجون إلى نصرتكم بأبدانكم وعقولكم. واعلموا أنكم إذا لزمتم ما آمركم به رجوت أن يقرب الله علينا أمر المشرق كما قرب أمر المغرب بكم. انهضوا رحمكم الله ونصركم. وفي سنة خمس وخمسين وثلاثمائة أمر المعز بحفر الآبار في طريق مصر وأن يبنى له في كل منزلة قصر ففعل ذلك. وفي يوم الجمعة لثلاث بقين من جمادى الآخرة من السنة وردت النجب من مصر بموت كافور الأخشيدي يوم الأربعاء لعشر بقين من جمادى الأولى. واستدعى المعز يوما أبا جعفر بن حسين بن مهذب صاحب بيت المال وهو بالمغرب فوجده في وسط القصر جالسا على صندوق وبين يديه ألوف صناديق مبددة في صحن القصر فقال له: هذه صناديق مال وقد شذ عني ترتيبها فانظرها ورتبها. قال: فأخذت أجمعها إلى أن صارت مرتبة وبين يدي جماعة من خدام بيت المال والفراشين وأنفذت إليه أعلمه فأمر برفعها في الخزائن على ترتيبها وأن يغلق عليها وتختم بخاتمه وقال: قد خرجت عن خاتمنا وصارت إليك ففعل. وكانت جملتها أربعة وعشرين ألف ألف دينار وذلك في سنة سبع وخمسين وثلاثمائة فأنفقها أجمع على العساكر التي سيرها إلى مصر في سنتي ثمان وتسع وخمسين مع القائد جوهر. وكان رحيله في رابع عشر ربيع الأول منها ومعه ألف حمل مال ومن السلاح والخيل والعدد ما لا يوصف فقدم جوهر إلى مصر ووصلت البشارة بفتحها في نصف رمضان سنة ثمان وخمسين فسر المعز سرورا كثيراً وأنشده ابن هانىء قصيدة أولها: يقول بنو العباس: هل فتحت مصر فقل لبني العباس: قد قضي الأمر ولما وصلت البشارة من الشام بكسر عسكر أبي عبد الله الحسن بن أحمد القرمطي المعروف بالأعصم أنشده ابن هانىء قصيدة منها: ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القّهار وأنشد أيضاً أخرى أولها: وعلى أمير المؤمنين مظلّةٌ زاحمت تحت لوائها جبريلا ولما أنفذ جوهر إلى مصر وبرز يريد المسير إلى مصر بعث المعز خفيفاً الصقلبي صاحب الستر إلى شيوخ كتامة يقول: يا إخواننا: قد رأينا أن ننفذ رجالا من بلدان كتامة يقيمون بينهم ويأخذون صدقاتهم ومراعيهم ويحفظونها علينا في بلادهم فإذا احتجنا إليها أنفذنا خلفها فاستعنا بها على ما نحن بسبيله. فقال بعض شيوخهم لخفيف وقد بلغهم ذلك : قل لمولانا: والله لا فعلنا هذا أبدا. كيف تؤدي كتامة الجزية ويصير عليها في الديوان ضريبة وقد أعزها الله قديما بالإسلام وحديثا معكم بالإيمان وسيوفنا بطاعتكم في المشرق والمغرب.
فعاد خفيف بذلك إلى المعز فأمر بإحضار جماعة كتامة فدخلوا عليه وهو راكب فرسه فقال: ما هذا الجواب الذي صدر عنكم. فقالوا: نعم هو جواب جماعتنا ما كنا يا مولانا بالذي يؤدي جزية تبقى علينا. فقام المعز في ركابه وقال: بارك الله فيكم فهكذا أريد أن تكونوا وإنما أردت أن أجربكم فانظروا كيف أنتم بعدى إذا سرنا عنكم إلى مصر هل تقبلون هذا أو تفعلونه وتدخلون تحته ممن يرومه منكم والآن سررتموني بارك الله فيكم. وكتب إلى جوهر وهو بمصر من الغرب: وأما ما ذكرت يا جوهر من أن جماعة من بني حمدان وصلت إليك كتبهم يبذلون الطاعة ويعدون بالمسارعة في المسير إليك فاسمع لما أذكره لك: احذر أن تبتدىء أحدا من بني حمدان بمكاتبة ترهيبا له ولا ترغيبا ومن كتب إليك منهم فأجبه بالحسن الجميل ولا تستدعه إليك ومن ورد إليك منهم فأحسن إليه ولا تمكن أحدا منهم من قيادة جيش ولا ملك طرف فبنو حمدان يتظاهرون بثلاثة أشياء عليها مدار العالم وليس لهم فيها نصيب: يتظاهرون بالدين وليس لهم فيه نصيب ويتظاهرون بالكرم وليس لواحد منهم كرم في الله ويتظاهرون بالشجاعة وشجاعتهم للدنيا لا للآخرة فاحذر كل الحذر من الاستنامة إلى أحد منهم ولما عزم المعز على المسير إلى مصر أجال فكره فيمن يخلفه بالمغرب فوقع اختياره على أبي أحمد جعفر بن عبد الأمير فاستدعاه وأسر إليه أنه يريد استخلافه بالمغرب فقال: تترك معي أحد أولادك أو أخوتك جالسا في القصر وأنا أدبر ولا تسألني عن شيء من الأموال إن كان ما أجبيه بازاء ما أنفقه وإذا أردت أمراً فعلته ولم أنتظر ورود الأمر فيه لبعد ما بين فغضب المعز وقال: يا جعفر: عزلتني عن ملكي وأردت أن تجعل لي شريكا في أمري واستبددت بالأموال والأعمال دوني قم فقد أخطأت حظك وما أصبت رشدك. فخرج. واستدعى المعز يوسف بن زيرى الصنهاجي وقال له: تأهب لخلافة المغرب فأكبر ذلك وقال: يا مولانا: أنت وآباؤك الأئمة من ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صفا لكم المغرب فكيف يصفوا لي وأنا صنهاجي بربري قتلتني يا مولاي بلا سيف ولا رمح. ولم يزل به حتى أجاب وقال: يا مولانا: بشريطة أن تولي القضاء والخراج لمن تراه وتختاره والخبر لمن تثق به وتجعلني أنا قائما بين أيديهم فمن استعصى عليهم أمروني به حتى أعمل فيه ما يجب ويكون الأمر لهم وأنا خادم بين ذلك. فحسن هذا من المعز وشكره فلما انصرف قال له عم أبيه أبو طالب أحمد بن المهدي عبيد يا مولانا: وتثق بهذا القول من يوسف أنه يفي بما ذكره فقال المعز: يا عمنا: كم بين قول يوسف وقول جعفر واعلم يا عم أن الأمر الذي طلبه جعفر ابتداءً هو آخر ما يصير إليه أمر يوسف فإذا تطاولت المدة سينفرد بالأمر ولكن هذا أولى وأحسن وأجود عند ذوي العقل وهو نهاية ما يفعله من يترك دياره. ووجهت أم الأمراء من المغرب بصبية ربتها لتباع في مصرن فطلب الوكيل فيها ألف دينار فجاءت امرأة شابة على حمار فلم تزل حتى اشترتها منه بستمائة دينار وقيل له يا مغربي: هذه بنت الأخشيد اشترت الجارية تتمتع بها وهي ست كافور. فلما عاد أخبر المعز بذلك فأمر بإحضار الشيوخ وأمر الرجل فحدثهم بخبر الجارية ثم قال: يا إخواننا: انهضوا إليهم فلن يحول بينكم وبينهم شيء وإذا كان قد بلغ بهم الترف إلى أن صارت امرأة من بنات ملوكهم تخرج وتشتري لنفسها جارية تتمتع بها فقد ضعفت نفوس رجالهم وذهبت الغيرة منهم فانهضوا بنا إليهم. فقالوا: السمع والطاعة. فقال: خذوا في حوائجكم فنحن نقدم الاختيار لمسيرنا إن شاء الله. ولما عزم المعز على الرحيل إلى مصر أتاه بلكين بن زيرى بألفي جمل من إبل زناتة وحمل ما له بالقصور من الذخائر وسبك الدنانير على شكل الطواحين جعل على كل جمل قطعتين في وسط كل قطعة ثقبا تجمع به القطعة إلى الأخرى فاستعظم ذلك الجند والرعية وصاروا يقفون في الطرق لرؤية بيت المال المحمول. وخرج المعز من المغرب يوم الإثنين لثمان بقين من شوال سنة إحدى وستين وثلاثمائة وخرج من المنصورية ومعه بلكين واسمه يوسف إلى سردانية من بلاد إفريقية فسلم إليه إفريقية والمغرب يوم الأربعاء لتسع بقين من ذي الحجة وأمر سائر الناس له بالسمع والطاعة وفوض إليه أمور البلاد ما خلا جزيرة صقلية فإنه ترك أمرها لحسن بن علي بن أبي الحسين وطرابلس وأعمالها. وقال له: إن نسيت ما وصيناك به فلا تنس ثلاثة أشياء: إياك أن ترفع الجباية عن أهل البادية ولا ترفع السيف عن البربر ولا تول أحدا من أخوتك وبني عمك فإنهم يرون أنهم أحق بهذا الأمر منك وافعل مع أهل الحاضرة خيراً. وفارقه. وكان قيصر ومظفر الصقلبيان قد بلغا رتبة عظيمة عند المنصور والمعز وكان المظفر يدل على المعز لأنه علمه الخط وهو صغير فاتفق أنه حرد يوما فسمعه المعز يتكلم بكلمة صقلبية استراب بها فأخذ المعز نفسه بحفظ اللغات فابتدأ بالبربرية فأحكمها ثم بالرومية ثم بالسودانية ثم استدعى الصقلبية فمرت به تلك الكلمة فيها فإذا هي شتمة فبقيت في نفسه حتى قتلهما. وبلغه وهو بالمغرب أمر الحرب من بني حسن وبني جعفر بن أبي طالب بالحجاز وأنه قتل من بني الحسن أكثر ممن قتل بنو حسن من بني جعفر فأنفذ مالا ورجالا سرا سعوا بين الطائفتين حتى اصطلحوا وتحملوا الحمالات عنهما. وكان فاضل القتلى لبني حسن عند بني جعفر سبعين قتيلاً فأدى القوم ذلك إليهم وعقدوا بينهم في المسجد الحرام صلحاً وتحملوا دياتهم من مال المعز وذلك في سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة فصار ذلك جميلا عند بني حسن للمعز فلما دخل جوهر مصر بادر حسن بن جعفر الحسني فملك مكة ودعا للمعز وكتب إلى جوهر بذلك فبعث بالخبر إلى المعز فأنفذ من المغرب إليه بتقليد الحرم وأعماله. قال أبو محمد الحسن بن إبراهيم بن زولاق المصري في كتاب إتمام أخبار أمراء مصر للكندي وفي جمادى الآخرة سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة صحت الأخبار بمسير عساكر المعز لدين الله من المغرب إلى مصر عليها عبده جوهر وكانت بمصر للمعز دعاة استدعوا خلقا في البلد وكانوا يقولون: إذا زال الحجر الأسود ملك مولانا المعز لدين الله الأرض كلها وبيننا وبينكم الحجر الأسود يعنون كافور الإخشيدي فلما مات كافور أنفذ المعز إلى دعاته بنوداً وقال: فرقوها على من يبايع من الجند وأمرهم إذا قربت العساكر ينشرونها فلما قربت العساكر من الإسكندرية جمع الوزير أبو الفضل جعفر بن الفضل بن جعفر بن محمد ابن موسى بن الحسن بن الفرات الناس وشاورهم فاتفقوا على مراسلة جوهر وأن يشترطوا عليه شروطاً وأنهم يسمعون له ويطيعونه ثم اجتمعوا على محاربته ثم انحل ذلك وعادوا إلى المراسلة بالصلح. وكانت رسل جوهر ترد سراً إلى ابن الفرات ثم اتفقوا على خروج أبي جعفر مسلم الحسيني وأبي إسماعيل الرسي ومعهما القاضي أبو طاهر وجماعة فبرزوا إلى الجيزة لاثنتي عشرة بقيت من رجب ولم يتأخر عن تشييعهم قائد ولا كاتب ولا عالم ولا شاهد ولا تاجر وساروا فلقوا جوهر بتروجة ووافقوه واشترطوا عليه فأجابهم إلى ما التمسوه وكتب لهم: بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من جوهر الكاتب عبد أمير المؤمنين المعز لدين الله صلوات الله عليه لجماعة أهل مصر الساكنين بها من أهلها ومن غيرهم: أبو جعفر مسلم الشريف أطال الله بقاءه وأبو إسماعيل الرسي أيده الله وأبو الطيب الهاشمي أيده الله . وأبو جعفر أحمد بن نصر أعزه الله والقاضي أعزه الله . وذكروا عنكم أنكم التمستم كتابا يشتمل على أمانكم في أنفسكم وأموالكم وبلادكم وجميع أحوالكم فعرفتم ما تقدم به أمر مولانا وسيدنا أمير المؤمنين صلوات الله عليه وحسن نظره لكم. فلتحمدوا الله على ما أولاكم وتشكروه على ما حماكم وتدأبوا فيما يلزمكم وتسارعوا إلى طاعته العاصمة لكم العائدة بالسلامة لكم وبالسعادة عليكم وهو أنه صلوات الله عليه لم يكن إخراجه للعساكر المنصورة والجيوش المظفرة إلا لما فيه إعزازكم وحمايتكم والجهاد عنكم إذ قد تخطفتكم الأيدي واستطال عليكم المستذل وأطمعته نفسه بالاقتدار على بلدكم في هذه السنة والتغلب عليه وأسر من فيه والاحتواء على نعمكم وأموالكم حسب ما فعله في غيركم من أهل بلدان المشرق وتأكد عزمه واشتد كلبه فعاجله مولانا وسيدنا أمير المؤمنين صلوات الله عليه بإخراج العساكر المنصورة وبادره بانفاذ الجيوش المظفرة دونكم ومجاهدته عنكم وعن كافة المسلمين ببلدان المشرق الذين عمهم الخزي وشملتهم الذلة واكتنفتهم المصائب وتتابعت الرزايا واتصل عندهم الخوف وكثرت استغاثتهم وعظم ضجيجهم وعلا صراخهم فلم يغثهم إلا من أرمضه أمرهم ومضه حالهم وأبكى عينه ما نالهم وأسهرها ما حل بهم وهو مولانا وسيدنا أمير المؤمنين صلوات الله عليه فرجا بفضل الله وإحسانه لديه وما عوده وأجراه عليه استنقاذ من أصبح منهم في ذل مقيم وعذاب أليم وأن يؤمن من استولى عليه الوهل ويفرخ روع من لم يزل في خوف ووجل وآثر إقامة الحج الذي تعطل وأهمل العباد فروضه وحقوقه لخوف المستولى عليهم وإذ لا يأمنون على أنفسهم ولا على أموالهم وإذ قد أوقع بهم مرة بعد أخرى فسفكت دماؤهم وابتزت أموالهم مع اعتماد ما جرت به عادته من صلاح الطرقات وقطع عبث العابثين فيها ليتطرق الناس آمنين ويسيروا مطمئنين ويتحفوا بالأطعمة والأقوات إذ كان قد انتهى إليه صلوات الله عليه انقطاع طرقاتها لخوف مادتها إذ لا زاجر للمعتدين ولا دافع للظالمين. ثم تجديد السكة وصرفها إلى العيار الذي عليه السكة الميمونة المنصورية المباركة وقطع الغش منها إذ كانت هذه الثلاث خصال هي التي لا يتسع لمن ينظر في أمور المسلمين إلا وما أوعز به مولانا وسيدنا أمير المؤمنين صلوات الله عليه إلى عبده من نشر العدل وبسط الحق وحسم الظلم وقطع العدوان ونفى الأذى ورفع المؤن والقيام في الحق وإعانة المظلوم مع الشفقة والإحسان وجميل النظر وكرم الصحبة ولطف العشرة وافتقاد الأحوال وحياطة أهل البلد في ليلهم ونهارهم وحين تصرفهم في أوان ابتغاء معاشهم حتى لا تجري أمورهم إلا على ما لم شعثهم وأقام أودهم وأصلح بالهم وجمع قلوبهم وألف كلمتهم على طاعة وليه ومولانا وسيدنا أمير المؤمنين صلوات الله عليه وما أمر به مولاه من إسقاط الرسوم الجائرة التي لا يرتضي صلوات الله عليه بإثباتها عليكم. وأن أجريكم في المواريث على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وأضع ما كان يؤخذ من تركات موتاكم لبيت المال من غير وصية من المتوفى بها فلا استحقاق لمصيرها لبيت المال.
وأن أتقدم في رم مساجدكم وتزيينها بالفر والإيقاد وأن أعطى مؤذنيها وقومتها ومن يؤم الناس فيها أرزاقهم وأدرها عليهم ولا أقطعها عنهم ولا أدفعها إلا من بيت المال لا بإحالة على من يقبض منهم. وغير ما ذكره مولانا وسيدنا أمير المؤمنين صلوات الله عليه مما ضمنه كتابه هذا ما ذكره من ترسل عنكم أيدهم الله وصانكم أجمعين بطاعة مولانا وسيدنا أمير المؤمنين صلوات الله عليه من أنكم ذكرتم وجوها التمستم ذكرها في كتاب أمانكم فذكرتها إجابة لكم وتطمينا لأنفسكم. وإلا فلم يكن لذكرها معنى ولا في نشرها فائدة إذ كان الإسلام سنة واحدة وشريعة متبعة وهي إقامتكم على مذهبكم وأن تتركوا على ما كنتم عليه من أداء الفروض في العلم والاجتماع عليه في جوامعكم ومساجدكم وثباتكم على ما كان عليه سلف الأمة من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين بعدهم وفقهاء الأمصار الذين جرت الأحكام بمذاهبكم وفتواهم وأن يجرى الأذان والصلاة وصيام شهر رمضان وفطره وقيام لياليه والزكاة والحج والجهاد على أمر الله وكتابه وما نصه نبيه صلى الله عليه وسلم في سنته واجراء أهل الذمة على ما كانوا عليه. ولكم علي أمان الله التام العام الدائم المتصل الشامل الكامل المتجدد المتأكد على الأيام وكرور الأعوام في أنفسكم وأموالكم وأهليكم ونعمكم وضياعكم ورباعكم وقليلكم وكثيركم. وعلى أنه لا يعترض عليكم معترض ولا يتجنى عليكم متجن ولا يتعقب عليكم متعقب. وعلى أنكم تصانون وتحفظون وتحرسون ويذب عنكم ويمنع منكم فلا يتعرض إلى أذاكم ولا يسارع أحد في الاعتداء عليكم ولا في الاستطالة على قويكم فضلا عن ضعيفكم . وعلى أن لا أزال مجتهدا فيما يعمكم صلاحه ويشملكم نفعه ويصل إليكم خيره وتتعرفون بركته وتغتبطون معه بطاعة مولانا وسيدنا أمير المؤمنين صلوات الله عليه . ولكم علي الوفاء بما التزمته وأعطيتكم إياه عهد الله وغليظ ميثاقه وذمته وذمة أنبيائه ورسله وذمة الأئمة موالينا أمراء المؤمنين قدس الله أرواحهم وذمة مولانا وسيدنا أمير المؤمنين المعز لدين الله صلوات الله عليه فتصرحون بها وتعلنون بالانصراف إليها وتخرجون إلي وتسلمون علي وتكونون بين يدي إلى أن أعبر الجسر وأنزل في المناخ المبارك وتحافظون من بعد على الطاعة وتثابرون عليها وتسارعون إلى فروضها ولا تخذلون وليا لمولانا أمير المؤمنين صلوات الله عليه وتلزمون ما أمرتم به وفقكم الله وأرشدكم أجمعين. وكتب القائد جوهر الأمان بخطه في شعبان سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين الأخيار.
وكتب بخطه في هذا الكتاب: قال جوهر الكاتب عبد أمير المؤمنين صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين وأبنائه الأكرمين : كتبت هذا الأمان على ما تقدم به أمر مولانا وسيدنا أمير المؤمنين صلوات الله عليه وعلى الوفاء بجميعه لمن أجاب من أهل البلد وغيرهم على ما شرطت فيه والحمد لله رب العالمين وحسبنا الله ونعم الوكيل وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين. وكتب جوهر بخطه في التاريخ المذكور: وأشهد جوهر على نفسه جماعة الحاضرين وهم: أبو جعفر مسلم بن محمد بن عبيد الله الحسيني. وأبو إسماعيل إبراهيم بن أحمد الرسي الحسني. وأبو الطيب العباس بن أحمد الهاشمي. والقاضي أبو الطاهر محمد بن أحمد. وابنه أبو يعلى محمد بن محمد. ومحمد بن مهلب بن محمد. وعمرو بن الحرث بن محمد. وأخذ منه أبو جعفر مسلم كتابا إلى أبي الفضل جعفر بن الفرات الوزير وجماعة وجوه الدولة وخاطب ابن الفرات في كتابه بالوزير بعد مراجعة وكان قد توقف في مخاطبته بالوزير وقال: ما كان وزير خليفة وأجاز الجماعة وحملهم ولم يقبل أبو جعفر مسلم شيئا منه وأكلت الجماعة معه وودعوه وانصرفوا فوافوا لثمان خلون من شعبان. قال ابن زولاق: سألت أبا جعفر مسلم عند رجوعه عن مقدار العسكر فقال: هو مثل جمع عرفات كثرة وعدة وسألته عن سن القائد جوهر فقال لي: نيف وخمسون سنة. فلما قدم الجماعة انتقض الإخشيدية والكافورية وكان قد بلغهم ذلك وهم عند القائد جوهر فتسرعوا في الانصراف من عنده وبلغ جوهر بعد انصرافهم انتقاض الصلح فأدرك الجماعة وأعلمهم بأن القوم قد نقضوا الصلح وطلب إعادة أمانه إليه فرفقوا به فقال للقاضي أبي طاهر: ما تقول يا قاضي في هذه المسألة فقال: ما هي فقال: ما تقول فيمن أراد العبور إلى مصر ليمضي إلى الجهاد لقتال الروم فمنع أليس له قتالهم فقال له القاضي: نعم. قال: نعم. ولما وافى أبو جعفر مسلم ومن معه من عند جوهر جاءه الناس وركب إليه ابن الفرات في موكب عظيم وعنده جماعة الوجوه فقرأ عليهم كتاب جوهر بالأمان والشرط وأوصل كتاب ابن الفرات وكتب الجماعة فامتنع القوم من قبول ذلك وقال فرح البجكمي للشريف مسلم: لو جاءنا جدك بهذا ضربنا وجهه بالسيف. فلامهم ابن الفرات على ذلك وقال: أنتم سألتم الشريف هذه المسألة فلم يقنع حتى أخذ معه أبا إسماعيل وهو رجل حسني وأخذ معه قاضي المسلمين وأخذ معه رجلا عباسيا. وسكت الشريف مسلم فلم يزد على أن قال: خار الله لكم. واشتغل ابن الفرات يسارر الشريف مسلم والإخشيدية والكافورية في خوض فقالوا كلهم: ما بيننا وبين جوهر إلا السيف: فسلموا على تحرير شويزان بالإماره وخرجوا يحجبونه إلى داره وبقي أحمد بن علي بن الإخشيد لا يفكر فيه.
واستعدوا للحرب وساروا لعشر خلون من شعبان فنزلوا الجزيرة بالرجال والسلاح ووافى جوهر الجزيرة فلما شاهد ما فعلوه عاد إلى منية شلقان وعبر إلى مصر من ذلك الموضع وأرسل فاستقبل المراكب الواردة من تنيس ودمياط وأسفل الأرض فأخذها وتولى العبور إليهم جعفر بن قلاح عريانا في سراويل مع جمع من المغاربة وبلغ الإخشيدية فأنفذوا تحرير الأرغلي ويمن الطويل ومبشر الإخشيدي في خلق فساروا إلى الموضع وكانوا قد وكلوا به مزاحم بن محمد بن رائق فلقوه راجعاً ووقع القتال فقتل خلق من المصريين. وانصرف الناس عشية الأحد النصف من شعبان فلما كان نصف الليل انصرف من كان بالجزيرة إلى دورهم وأصبحوا غادين إلى الشام وقد قتل جماعة منهم: تحرير الأرغلي ومبشر الإخشيدي ويمن الطويل وخلق كثير. وأصبح الناس على خطة عظيمة فبكروا في يوم الاثنين إلى دار الشريف مسلم يسألونه الكتاب إلى جوهر في إعادة أمانهم فكتب إليه وجلس الناس عنده وقد طاف علي بن الحسين بن لؤلؤ صاحب الشرطة السفلي ومعه رسول جوهر وبند عليه اسم المعز لدين الله وبين أيديهما الأجراس بأن لا مؤونة ولا كلفة وأمن الناس وفرقت البنود فنشر كل من عنده بند بنده في درب حارته. وجاء الجواب إلى الشريف وقت العصر ونسخته بعد البسملة: وصل كتاب الشريف الجليل أطال الله بقاءه وأدام عزه وتأييده وعلوه وهو المهنأ بما هنأ به وجعلت إلى الشريف أعزه الله أن يؤمن كيف رأى وكيف أحب ويزيد على ما كتبته كيف يشاء فهو أماني وعن إذني وإذن مولانا وسيدنا أمير المؤمنين صلوات الله عليه . وقد كتبت إلى الوزير أيده الله بالاحتياط على دور الهاربين إلى أن يرجعوا إلى الطاعة ويدخلوا فيما دخلت فيه الجماعة ويعمل الشريف أيده الله تعالى على لقائي في يوم الثلاثاء لسبع عشرة تخلو من شعبان. فاستبشرت الجماعة وابتهجوا وعملوا على الغدو إلى الجزيرة للقاء جوهر مع الشريف مسلم وبات الناس على هدوء وطمأنينة. فلما كان غداة يوم الثلاثاء لسبع عشرة خلت من شعبان خرج الشريف أبو جعفر مسلم وجعفر بن الفضل بن الفرات وسائر الأشراف والقضاة والعلماء والشهود ووجوه التجار والرعية إلى الجيزة فلما تكامل الناس أقبل القائد جوهر في عساكره فصاح بعض حجابه: الأرض إلا الشريف والوزير. وتقدم الناس واحداً واحداً فلما فرغوا من السلام عليه عاد الناس إلى الفسطاط. فلما زالت الشمس أقبلت العساكر فعبرت الجسر ودخلت أفواجا أفواجا ومعهم صناديق المال على البغال ويقال إن المال كان في ألف وخمسمائة صندوق وأقبلت القباب وأقبل جوهر في حلة مذهبة مثقل في فرسانه ورجالته وقاد العسكر بأسره إلى المناخ الذي رسم له المعز موضع القاهرة واختط موضع القصر وأقام عسكره سبعة أيام يدخل من يوم الثلاثاء إلى آخر يوم الاثنين واستقرت به الدار. وجاءته الألطاف والهدايا فلم يقبل من أحد طعاما إلا من الشريف مسلم ويقال: لما أناخ جوهر في موضع القاهرة الآن اختط القصر فأصبح المصريون ليهنئوه فوجدوه قد حفر أساس القصر في الليل. ويقال إن جوهر لما بنى القصر وأدار عليها السور سماها: المنصورية فلما قدم المعز لدين الله إلى الديار المصرية سماها القاهرة. ويقال في سبب تسميتها القاهرة أن القائد جوهر لما أراد بناء القاهرة أحضر المنجمين وعرفهم أنه يريد عمارة بلد ظاهر مصر ليقيم بها الجند وأمرهم باختيار طالع لوضع الأساس بحيث لا يخرج البلد عن نسلهم فاختاروا طالعا لحفر السور وطالعا لابتداء وضع الحجارة في الأساس وجعلوا بدائر السور قوائم من خشب بين كل قائمتين حبل فيه أجراس وقالوا للعمال: إذا تحركت الأجراس أرموا ما بأيديكم من الطين والحجارة. فوقفوا ينتظرون الوقت الصالح لذلك فاتفق أن غرابا وقع على حبل من تلك الحبال المعلق فيها الأجراس فتحركت الأجراس كلها وظن العمال أن المنجمين حركوها فألقوا ما بأيديهم من الطين والحجارة وبنوا فصاح المنجمون: القاهر في الطالع. فمضى ذلك وفاتهم ما قصدوه. ويقال إن المريخ كان في الطالع عند ابتداء وضع أساس القاهرة وهو قاهر الفلك فسموها القاهرة فحكموا لذلك أن القاهرة لا تزال تحت حكم الأتراك. وأدار السور اللبن احول بئر العظام وجعلها في القصر وجعل القاهرة حارات للواصلين صحبته وصحبة مولاه المعز وعمل القصر بترتيب ألقاه إليه المعز. ويقال إن المعز لما رأى القاهرة لم يعجبه مكانها في البرية بغير ساحل وقال لجوهر: يا جوهر فاتتك عمارتك ها هنا يعني المقس بشاطىء النيل . فلما رأى سطح الجرف المعروف اليوم بالرصد قال: يا جوهر: لما فاتك الساحل كان ينبغي عمارة القاهرة بهذا الجبل على هذا السطح وتكون قلعة لمصر. حكاه ابن الطوير. قال: وكان المعز عارفا بالأمور مطلعاً على الأحوال بالذكاء وكان يضرب في فنون منها النجامة فرتب في القصر ما يحتاج إليه الملوك بل الخلفاء بحيث لا يراهم العيان في النقلة من مكان إلى مكان وجعل لهم في ساحاته البحر والميدان والبستان وتقدم بعمارة المصلى ظاهر القاهرة لأهلها لخطبتهم فيها والصلاة في عيدي الفطر والنحر والآخر بالقرافة لأهل مصر. وقال ابن الظاهر: فلما تحقق المعز وفاة كافور جهز جوهر وصحبته العساكر ثم نزل بموضع يعرف برقادة وخرج في أكثر من مائة ألف فارس وبين يديه أكثر من ألف صندوق من المال وكان المعز يخرج إلى جوهر في كل يوم ويخلو به وأمره أن يأخذ من بيوت الأموال ما يريد زيادة على ما أعطاه. وركب إليه المعز يوما فجلس وقام جوهر بين يديه فالتفت المعز إلى المشايخ الذين وجههم معه وقال: والله لو خرج جوهر هذا وحده لفتح مصر وليدخلن إلى مصر بالأردية من غير حرب ولينزلن في خرابات ابن طولون وتبنى مدينة تسمى القاهرة تقهر الدنيا. قال: ونزل جوهر مناخه موضع القاهرة الآن في يوم الثلاثاء لسبع عشرة خلت من شعبان سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة واختط القصر وبات الناس فلما أصبحوا حضروا للهناء فوجدوه قد حفر أساس القصر بالليل وكانت فيه زورات غير معتدلة فلما شاهد ذلك جوهر لم يعجبه ثم قال: قد حفر في ليلة مباركة وساعة سعيدة فتركه على حاله.
وقال ابن زولاق: ولما أصبح أنفذ علي بن الوليد القاضي لعسكره وبين يديه أحمال مال ومناد ينادي: من أراد الصدقة فليصر إلى دار أبي جعفر. فاجتمع خلق من المستورين والفقراء فصاروا بهم إلى الجامع العتيق ففرق فيهم.
ولما كان يوم الجمعة لعشر بقين من شعبان نزل جوهر في عسكر إلى الجامع العتيق لصلاة الجمعة وخطب بهم هبة الله بن أحمد خليفة عبد السميع بن عمر العباسي ببياض فلما بلغ إلى الدعاء قرأه من رقعة وهو: اللهم صل على عبدك ووليك ثمرة النبوة وسليل العترة الهادية المهدية عبد الله الإمام معد أبي تميم المعز لدين الله أمير المؤمنين كما صليت على آبائه الطاهرين وأسلافه الأئمة الراشدين. اللهم ارفع درجته وأعل كلمته وأوضح حجته واجمع الأمة على طاعته والقلوب على موالاته وصحبته واجعل الرشاد في موافقته وورثه مشارق الأرض ومغاربها وأحمده مبادىء الأمور وعواقبها فإنك تقول وقولك الحق: فقد امتعض لدينك ولما انتهك من حرمتك ودرس من الجهاد في سبيلك وانقطع من الحج إلى بيتك وزيارة قبر رسولك صلى الله عليه وسلم فأعد للجهاد عدته وأخذ لكل خطب أهبته فسير الجيوش لنصرتك وأنفق الأموال في طاعتك وبذل المجهود في رضاك فارتدع الجاهل وقصر المتطاول وظهر الحق وزهق الباطل فانصر اللهم في جيوشه التي سيرها وسراياه التي انتدبها لقتال المشركين وجهاد الملحدين والذب عن المسلمين وعمارة الثغور والحرم وإزالة الظلم والتهم والنهم وبسط العدل في الأمم. اللهم اجعل راياته عالية مشهورة وعساكره غالبة منصورة وأصلح به وعلى يديه واجعل لنا منك واقية علية. وأمر جوهر بفتح دار الضرب وضرب السكة الحمراء وعليها: دعا الإمام معد بتوحيد الإله الصمد في سطر. وفي السطر الآخر: المعز لدين الله أمير المؤمنين. وفي سطر آخر: بسم الله. ضرب هذا الدينار بمصر سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة لا إله إلا الله محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون. علي أفضل الوصيين وزير خير المرسلين. ورجع مزاحم بن رائق وكان قد سار مع الإخشيدية ومعه جيش كبير. وأفطر جوهر يوم الفطر على عدد بغير رؤية وصلى صلاة العيد بالقاهرة صلى به على بن وليد الإشبيلي وخطب ولم يصل أهل مصر وصلوا من الغد في الجامع العتيق وخطب لهم رجل هاشمي. وكان أبو طاهر القاضي قد التمس الهلال على رسمه في سطح الجامع فلم يره وبلغ ذلك جوهر فأنكره وتهدد عليه. وجلس جوهر للمظالم في كل يوم سبت ثم رد المظالم إلى أن أبي عيسى مرشد. وفي شوال صرف علي بن لؤلؤ عن الشرطة السفلى ورد شبل المعرضي وولى عدة من جهات الخراج وعلى الضياع. وفي ذي الحجة قدم ستة آلاف من الإخشيدية والكافورية فأنزلوا خارج القاهرة وزيد في الخطبة: اللهم صل على محمد النبي المصطفى وعلى علي المرتضى وعلى فاطمة البتول وعلى الحسن والحسين سبطى الرسول الذين أذهبت عنهم الرجس وطهرتهم تطهيرا اللهم صل على الأئمة ونودي برفع البراطيل وقائم الشرطتين وسائر رسوم البلد. وورد الخبر بدخول القرامطة الرملة. وورد كتاب المعز من المغرب بوصول رأس نحرير ومبشر ويمن وبلال. وتولى الحسبة رجل يعرف بأبي جعفر الخراساني. وفي نصف ذي الحجة تكاملت الإخشيدية والكافورية المستأمنة بمصر وهم أربعة عشر رئيسا في عسكر عدته خمسة آلاف كانوا في معسكر لهم عند مصلى العيد بالقاهرة فهرب منه فاتك الهيكلي إلى الشام فلم يدركه الطلب وبلغ جوهر أن المستأمنة من الإخشيدية والكافورية اتفقوا على فساد. وتوفي ابن لجعفر بن فلاح فحضر جوهر الجنازة وحضر الناس وفيهم الإخشيدية والكافورية وانصرفوا معه فقال لهم في طريقه: قد حضر كتاب مولانا ومولاكم بما تسروا به فسيروا حتى تقفوا عليه. فساروا معه إلى مضاربة بالقاهرة ودخلوا معه فقبض على ثلاثة عشر من وجوههم وهم: نحرير شويزان وقنك الخادم الأسود ودرى الصقلي وحكل الإخشيدي ولؤلؤ الطويل ومفلح الوهباني وقيلق التركي وفرح اليحكمي واعتقلهم ستة أشهر حتى سيرهم مع الهدية إلى المعز ومعهم الحسن بن عبيد الله بن طغج وقبض على ضياع نحرير الأرغلي وأمواله وقبض من يحيى بن مكي بن رجاء ثمانين ألف دينار عينا وصاريين من عود رطب. وورد كتاب المعز إلى جوهر وإلى أبي جعفر مسلم وإلى أبي إسماعيل الرسي وإلى الوزير جعفر بن الفرات. وولى جوهر مزاحم بن محمد بن رائق الحوف والفرما. ودخل جوهر والغلاء شديد فزاد في أيامه حتى بلغ القمح تسعة أقداح بدينار. وكان عامل الخراج علي بن يحيى بن العرمرم فأقره جوهر شهراً ثم أشرك معه رجاء ابن صولان. وأقر ابن الفرات على وزارته. وأزال جوهر من مصر السواد. ومنع من قراءة سبح اسم ربك في صلاة الجمعة. وأزال التكبير بعد صلاة الجمعة. ولم يدع عملا إلا جعل فيه مغربيا شريكا لمن فيه. وكان القاع ثلاثة أذرع وتسعة عشر إصبعا وبلغ الماء سبعة عشر ذراعا وتسعة عشر إصبعا سنة تسع وخمسين وثلاثمائة وفي المحرم أنفذ بشير الإخشيدي من تنيس نحو مائة وخمسين رجلا طيف بهم. وكثر الفساد في الطرق فضرب جوهر أعناق جماعة وصلبهم في السكك. ولاثنتي عشرة بقيت منه سار جعفر بن فلاح بن أبي مرزوق إلى الشام وقاتل القرامطة بالرملة وهزمهم وأسر الحسين بن عبيد الله بن طغج وجماعة وبعثهم في القيود إلى جوهر. وسير جوهر إلى الصعيد في البر والبحر. وفي ربيع الأول قبض على دواب الإخشيدية والكافورية وصرفهم مشاة وأمرهم بطلب المعيشة. وسير الهدية جعفر بن الفضل بن الفرات مع ابنه أحمد في ربيع الآخر. وفي سلخ ربيع الآخر زاد الغلاء ونزعت الأسعار وتوفي أبو جعفر المحتسب فرد جوهر أمر الحسبة إلى سليمان بن عزة. فضبط الساحل وجمع القماحين في موضع واحد ولم يدع كف قمح يجمع إلا بحضرته وضرب أحد عشر رجلا من الطحانين وطيف بهم. وفي يوم الجمعة لثمان خلون من جمادى الأولى صلى جوهر الجمعة في جامع ابن طولون وأذن المؤذنون بحي على خير العمل وهو أول ما أذن به بمصر وصلى به عبد السميع الجمعة فقرأ سورة الجمعة: إذا جاءك المنافقون وقنت في الركعة الثانية وانحط إلى السجود ونسي الركوع فصاح به على بن الوليد قاضي عسكر جوهر : بطلت الصلاة أعد ظهرا أربعا. ثم أذن بحي على خير العمل في سائر مساجد العسكر وأنكر جوهر على عبد السميع أنه لم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم في كل سورة ولا قرأها في الخطبة فصلى به الجمعة الأخرى وفعل ذلك وكان قد دعا لجوهر في الجمعة الأولى في الخطبة فأنكر ذلك ومنعه. وقبض جوهر الأحباس من القاضي أبي طاهر وردها إلى غيره. ولأربع بقين منه أذن في الجامع العتيق بحي على خير العمل وجهر فيه بالبسملة في الصلاة ولسبع عشرة خلت من جمادى الآخرة أنفذ جوهر هديته إلى المعز ومعها المعتقلون في القيود فكان فيما أهداه تسع وتسعون بختية وإحدى وعشرون قبة عليها الديباج المنسوج بالذهب ولها مناطق من ذهب مكللة بالجوهر ومائة وعشرون ناقة بأجلة الديباج وأعنة محلاة بالفضة وخمسمائة جمل عرابا وستة وخمسون جلا وثمانية وأربعون دابة منها بغلة واحدة وسبعة وأربعون فرسا بأجلة حرير منقوش وسروج كلها ما بين ذهب وفضة ولجمها كذلك وعودان كأطول ما يكون العود الذي يتبخر به. وكان الأسرى: الحسن بن عبيد الله بن طغج وابن غزوان صاحب القرامطة وفاتك الهنكري والحسن بن جابر الرياحي كاتب الحسن بن عبيد الله بن طغج ونحرير شويزان ومفلح الرهباني ودرى الخازن وفرقيك وقيلغ التركي الكافوري وأبو منحل وحكل الإخشيدي وفرح اليحكمي ولؤلؤ الطويل وقنك الطويل الخادم فحملوا في المراكب إلى الإسكندرية وساروا منها إلى القيروان في البر. ونافق بشير الإخشيدي بأسفل الأرض فاستعطفه جوهر فلم يجب فسير إليه العساكر فحاربها بصهرجت ونهبها ومضى منهزما إلى الشام في البحر فأخذ بصور وأدخل به على فيل ومعه جماعة وبعث به جعفر بن فلاح. وفي رمضان حفر جوهر سوارى الجامع العتيق الخشب. وفي ذي القعدة ردت الحسبة إلى سليمان بن عزة المغربي فجمع سماسرة الغلات في مكان. وسد الطرق إلا طريقا واحدا فكان البيع كله هناك ولا يخرج قدح غلة حتى يقف عليه. ومنع جوهر من الدينار الأبيض وكان بعشرة دراهم فأمر أن يكون الراضي بخمسة عشر درهما والمعزى بخمسة وعشرين درهما ونصف فلم يفعل الناس ذلك فرد الأبيض إلى ستة دراهم فتلف وافتقر خلق. وأنفذ المعز عسكرا وأحمال مال عدتها عشرون حملا للحرمين وعدة أحمال متاع. وورد الخبر بفتح جعفر بن فلاح دمشق ودخولها وكان من خبر جعفر بن فلاح: أنه لما سار من القاهرة في عسكره كان على الرملة ودمشق الحسن بن عبيد الله بن طغج فلما بلغه دخول جوهر القائد إلى مصر بعساكر المعز سار عن دمشق في شهر رمضان واستخلف عليه شمول الإخشيدي وكان شمول يحقد في نفسه منه ويكاتب جوهر القائد فنزل ابن طغج الرملة وتأهب لحرب من يسير إليه من مصر فوردت عليه الأخبار بمسير القرامطة إليه ووافوه بالرملة فلقيهم وحاربهم فانهزم منهم ثم صالحهم وصاهرهم في ذي الحجة. ورحل عنه القرمطي بعد ما أقام بظاهر الرملة ثلاثين يوما فبعث إلى شمول بالمسير إليه لمحاربة من تقدم من مصر وأنفذ إلى الصباحي وإلى بيت المقدس بالقدوم عليه فتقاعد عنه شمول وقرب منه جعفر بن فلاح وقد انتشرت كتبه إلى ولاة الأعمال بعدهم الإحسان ويدعوهم إلى طاعة المعز فالتقى مع ابن طغج وحاربه فانهزم منه واحتوى على عسكره فقتل كثيرا من أصحابه وأخذه أسيرا في النصف من رجب سنة تسع فأقام بالرمة يتبع ما كان لابن طغج ولأصحابه وسار إلى طبرية فبنى قصرا عند الجسر ليحارب فاتك غلام ملهم وكان عليها من قبل كافور الإخشيدي فلم يعرض له ملهم وملك جعفر طبرية. وكان بحوران والبثنية بنو عقيل من قبل الإخشيد وهم: شبيب وظالم بن موهوب وملهم بن. قد ملكوا تلك الديار فأخذ جعفر بن فلاح يستميل إليه من العرب فزارة ومرة وباطنهم على قتل ملهم فرتبوا له رجالا قتلوه على حين غفلة وأظهر جعفر أن ذلك من غير علمه. وقبض على من قتله وبعث بهم إلى ملهم فعفا عنهم. وسار من دمشق مشايخ أهلها إلى طبرية للقاء جعفر فاتفق وصولهم إليها يوم قتل فاتك قد ثارت بها فتنة فأخذوا وسلبوا ما عليهم فلقوا جعفر بن فلاح وعادوا إلى دمشق وهم غير شاكرين ولا راضين فبسطوا ألسنتهم بذم المغاربة حتى استوحش أهل دمشق منهم. وكان شمول قد خرج منها إلى جعفر فلقيه بطبرية وصار البلد خاليا من السلطان فطمع الطامع وكثر الذعار وحمال السلاح به وجهز جعفر من طبرية من استمالهم من مرة وفزارة لحرب بني عقيل بحوران والبثنية وأردفهم بعسكر من أصحابه فواقعو بني عقيل وهزموهم إلى أرض حمص وهم خلفهم ثم رجعوا إلى الغوطة وامتدت أيديهم إلى أخذ الأموال وهم سائرون حتى نزلوا بظاهر دمشق فثار عليهم أهل البلد وقاتلوهم وقتلوا منهم كثيرا من العرب فانهزموا عنها وذلك لثمان خلون من ذي الحجة فلحقوا بطلائع جعفر فساروا معها إلى دمشق وخرج إليهم الناس مستعدين لمحاربتهم في خيل ورجل فاقتتلوا يومهم ثم انصرفوا وأصبحوا يوم الجمعة فاقتتلوا وصاح الناس في الجامع بعد الصلاة: النفير فخرج النفير واشتد القتال إلى آخر النهار. ونزل جعفر يوم السبت لعشر خلون منه بالشماسية وأصبح الناس للقتال ولم يصلوا ذلك اليوم في المصلى صلاة العيد فاستمروا طول النهار ومعهم الجند الذين كانوا مع شمول فكلوا وحملت معهم المغاربة فانهزموا وتمكن السيف منهم وهم منهزمون إلى أرض عاتكة وقصر حجاج فقتل خلق كثير وكان رئيس أهل الشام في هذه الحروب أبو القاسم ابن أبي يعلى العباسي ومحمد بن عصودا وصدقة الشوا. فلما ملك المغاربة ظاهر البلد طرحوا النار فيما هنالك من الأسواق وغيرها وصاروا إلى باب الجابية وأصبحوا وقد ضبط الرعية أبواب البلد فاستمرت الحرب طول النهار مما يلي المصلى ثم كفوا عن القتال وباتوا فلما أصبح النهار خرج قوم من مشايخ البلد لمخاطبة جعفر وهو بالشماسية في إصلاح أمر البلد فأخذهم قوم من المغاربة وسلبوهم ثيابهم وقتلوا منهم وجرحوا عدة وعلم بذلك أهل البلد فصاحوا من أعلى المواذن بالناس يعلمونهم الخبر ثم قدم المأخوذون فارتاع الناس واشتد خوفهم وتحيروا ثم جرت بينهم بعد ذلك وبين جعفر مراسلة فخرجوا إليه فاشتد عليهم وخوفهم بالنار والسيف فعادوا وقد ملئوا رعبا فبلغوا قوله للناس وقد تحيروا فاقتضى رأيهم معاودة جعفر في طلب العفو فرجع المشايخ إليه وما زالوا يتضرعون إليه حتى قال: ما أعفو عنكم حتى تخرجوا إلي ومعكم نساؤكم مكشوفات الشعور فيتمرغن في التراب بين يدي لطلب العفو. فقالوا له: نفعل ما يقول القائد. وما برحوا يذلون له حتى انبسط معهم في الكلام وتقرر الأمر على أنه يدخل يوم الجمعة إلى الصلاة في الجامع. فلما كان يوم الجمعة ركب في عسكره ودخل البلد فصلى بالجامع وخرج فوضع أصحابه أيديهم ينهبون الناس فثاروا عليهم وقتلوا منهم كثيرا وخرج إليه المشايخ فأنكر عليهم وقال لهم: دخل رجال أمير المؤمنين للصلاة فقتلتموهم وهددهم فلطفوا معه القول وداروه فأومأ إلى مال يأخذه من البلد دية من قتل من رجال أمير المؤمنين فأجابوه وكان في الجماعة أبو القاسم أحمد المعروف بالعقيقي العلوي وهو أحمد بن الحسن الأشل بن أحمد بن علي الرئيس بالمدينة كان بن محمد العقيقي بن جعفر بن عبد الله ابن الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي ونزل بظاهر سور دمشق فوق نهر يزيد أصحاب جعفر فبنوا المساكن وأقاموا بها الأسواق وصارت شبه المدينة واتخذ لنفسه قصرا عجيبا من الحجارة وجعله عظيما شاهقا في الهواء غريب البناء وتطلب حمال السلاح فظفر بقوم منهم وضرب أعناقهم وصلب جثثهم وعلق رءوسهم على الأبواب وفيها رأس إسحاق بن عصودا. وكان ابن أبي يعلى لما انهزم خرج إلى الغوطة يريد بغداد فقبض عليه ابن عليان العدوي عند تدمر وجاء به إلى جعفر بن فلاح فشهره على جمل وفوق رأسه قلنسوة وفي لحيته ريش وبيده قصبة ثم بعث به إلى مصر. وأما محمد بن عصودا فإنه لحق بالقرامطة في الأحساء هو وظالم بن موهوب العقيلي لما انهزم بنو عقيل عن حوران والبثنية فحثوهم على المسير إلى دمشق. فلما كان في ربيع الأول سنة ستين أنفذ جعفر غلامه فتوح على عسكر إلى أنطاكية وكان لها في أيدي الروم نحو من ثلاث سنين وسير إلى أعمال دمشق وطبرية وفلسطين فجمع منها الرجال وبعث عسكرا بعد عسكر إلى أنطاكية وكان الوقت شتاء فنازلوها حتى انصرم الشتاء وسارت القوافل وهم ملحون في القتال فأردفهم جعفر بعساكر في نحو أربعة آلاف مددا لهم فظفروا بنحو مائتي بغل تحمل علوفة لأهل أنطاكية فأخذوها وقد أشرفوا على اسنكدرونة وورد على ابن فلاح خبر هزيمة عسكره وخبر مسير القرامطة إلى الشام وأنهم وردوا الكوفة. فأمدهم صاحب بغداد بالسلاح وكتب لهم بأربعمائة ألف درهم على أبي تغلب ابن حمدان تقوية لهم على حرب المغاربة فبعث إلى غلامه فتوح برحيله عن أنطاكية ومصيره إليه فوافاه ذلك أول رمضان فسار بمن معه وتركوا كثيرا من العلف والطعام وأتوه إلى دمشق فصار كل قوم منهم إلى أماكنهم. وقدم القرمطي إلى الرحبة فأمده أبو تغلب بالمال وبمن كان عنده من الإخشيدية الذين كانوا بمصر وفلسطين صاروا إليه لما انهزموا من المغاربة وصار بهم القرمطي حتى قرب من دمشق فخرج إليهم جعفر بن فلاح وقد استهان بهم وواقعهم فانهزم منهم وأخذ السيف أصحابه وقتل فلم يدر قاتله لست خلون من ذي القعدة سنة ستين ووجد مطروحا على الطريق خارج دمشق فجاءه محمد بن عصودا فقطع رأسه وصلبه على حائط داره أراد بذلك أخذ ثأر أخيه إسحاق لما قتله جعفر وصلبه. وملك القرامطة دمشق وأمنوا أهلها ثم ساروا إلى الرملة فملكوها واجتمع إليهم كثير من الإخشيدية. وفيها اصطلح قرعويه مولى سيف الدولة بن حمدان متولى حلب وأبو المعالي شريف ابن سيف الدولة فخطب له قرعويه بحلب وخطبا جميعا في معاملتيهما للإمام المعز بحلب سنة ستين وثلاثمائة: ففي المحرم اشتدت الأمراض والوباء بالقاهرة وورد جماعة من الوافدين إلى المغرب بجوائز وخلع. وفي صفر ضرب تبر بالسياط وقبضت ودائعه. وفي ربيع الآخر جرح تبر القائد أبو الحسن نفسه ومات بعد أيام فسلخ بعد موته وصلب حتى مزقته الرياح عند المنظر. وفي جمادى الأولى منع جوهر من بيع الشوىء مسموطا وأن يسلخ من جلده.
وفي جمادى الآخرة نقل جوهر مجلس المظالم إلى يوم الأحد وأطلق لأصحاب الراتب ألف دينار فرقت فيهم وورد شمول من الشام مستأمنا فخلع عليه سبع خلع وحمل على فرسين وأعطى إثنا عش كيسا عينا وورقا وقدم سعادة بن حيان من المغرب في جيش كبير فتلقاه جوهر فترجل له سعادة.
وفي شعبان وردت الرسل من المغرب برأس محمد بن خزر ومعه ثلاثة آلاف رأس فقرأ عبد السميع يوم الجمعة كتاب المعز بخبر المذكور وكان محمد بن الخير بن محمد بن خزر الزناتي أكبر ملوك المغرب سلطانا على زناتة وغيرهم هجم عليه أبو الفتوح يوسف بن زيرى ابن مناد وهو في قليل من أصحابه يشرب فلما أحيط به قتل نفسه بسيفه في سابع عشر ربيع الآخر سنة ستين وثلاثمائة فقدم رأسه على المعز لثلاث بقين منه. وفي شوال أنفذ جوهر سعاة بن حيان إلى الرملة واليا عليها وقد كثر الإرجاف بالقرامطة وأن جعفر بن فلاح قتل منهم وملكوا دمشق فتأهب جوهر لقتالهم وعمل الخندق ونصب عليه البابين الحديد اللذين كانا على ميدان الإخشيدي وبني القنطرة على الخليج وفرق السلاح على المغاربة والمصريين ووكل بابن الفرات خادما يبيت معه في داره ويركب معه حيث سار ووثب أهل تنيس على واليهم وقتلوا جماعة منهم الإمام في القبلة ووجدت رقاع في الجامع العتيق فيها التحذير من جوهر فجمع الناس ووبخهم فاعتذروا.
وفي ذي الحجة كبست القرامطة مدينة القلزم وأخذوا واليها عبد العزيز بن يوسف وما كان له من خيل وإبل. وكان القاع خمسة أذرع وبلغ ماء النيل سبعة عشر ذراعا وأربعة أصابع وخلع جوهر على ابن أبي الرداد وأجازه وحمله.
وفيها مات أبو سعيد يانس أحد قواد الإخشيدية في المحرم. وقتل تبر القائد أبو الحسن نفسه بسكين الدواة في شهر ربيع الآخر فسلخه القائد جوهر وصلبه عند المنظر حتى مزقته الرياح. ودخلت سنة إحدى وستين وثلاثمائة وفي المحرم دخل برءوس من بني هلال.
وفيه كبست الفرما وعصى أهل تنيس وغيروا الدعوة وسودوا فحاربهم العسكر ودخل بعض المنهزمين من القرامطة وتبعهم القرامطة إلى عين شمس فاستعد جوهر لقتالهم وغلق أبواب الطابية وضبط الداخل والخارج وقبض على أربعة من الجند المصريين وضرب أعناقهم وصلبهم وبعث فأخرج ابن الفرات من داره وأسكنه بالقاهرة. وفي مستهل ربيع الأول التحم القتال مع القرامطة على باب القاهرة. وكان يوم جمعة فقتل من الفريقين جماعة وأسر عدة وأصبحوا يوم السبت متكافئين وغدوا يوم الأحد للقتال فسار الحسن بن أحمد بهرام الذي يقال له الأعسم زعيم عسكر القرامطة بجميع عسكره على الخندق والباب مغلق فلما زالت الشمس فتح جوهر الباب واقتتلوا قتالا شديدا قتل فيه خلق كثير وانهزم الأعسم ونهب سواده بالجب وأخذت صناديقه وكتبه وهو من جاء بالقرمطي أو برأسه فله ثلاث مائة ألف درهم وخمسون خلعة وخمسون سرجا بحلى على دوابها. فلما كان الغد من وقعة القرمطي ورد أبو محمد الحسن بن عمار من المغرب وسار عسكر لقتال أهل تنيس وقبض على تسعمائة من جند مصر في ساعة واحدة وقيدوا ورد جوهر تدبير الأموال إلى جعفر بن الفرات وخرج سعادة بن حيان في عسكر إلى الرملة بسبب القرامطة فدخلها ثم قدم عليه الأعسم القرمطي فعاد سعادة بمن معه إلى مصر. وفي شهر رمضان قبض على عجوز عمياء تنشد في الطريق وحبست ففرح جماعة من الرعية ونادوا بذكر الصحابة وصاحوا: معاوية خال المؤمنين وخال علي. فبعث جوهر ونادى في الجامع العتيق: أيها الناس: أقلوا القول ودعوا الفضول فإننا حبسنا العجوز صيانةً لها فلا ينطقن أحد إلا حلت عليه العقوبة الموجعة. ثم أطلقت العجوز. وخرج عبد العزيز بن إبراهيم الكلابي بالصعيد وسود ودعا لبني العباس فبعث إليه جوهر في البحر أربعين مركبا عليها بشارة النوبى وأنفذ بأزرق في البر على عسكر فأخذ وأدخل به في قفص مغلولا وطيف به وبمن معه. ووافى الأسطول من المغرب وسار إلى الشام فأسر وغنم. وأمر جوهر برفع الدنانير البيض. وفي آخر ذي الحجة نهبت المغاربة مواضع بمصر فثارت الرعية فاقتتلوا قتالا شديدا وركب إليهم سعادة بن حيان وغرم جوهر للناس ما نهب لهم وقبل قولهم في ذلك.
|